كان العديد من الرهبان فى ذلك الوقت يقفون
عند البحيرة لسحب شباك الصيد التى نصبوها قبل هبوب العاصفة الثلجية ..وإذ بهم يرون
على بُعد شيئاً يتحرك كالشبح تحت الأشجار المغطاة بالثلوج ثم يشقط فجأة ولا يلبث
أن ينهض حتى يسقط مرة أخرى على الأرض مطروحاً وسط الثلوج ..
تساءل الأب تريفون : " ما هذا ؟!
ألعلها ساكنة الغابة عابدة الرب ؟" وللحال أسرع تجاه الغابة فى الظلام إذ
كانت الشمس قد أوشكت على الغروب ، مُعطية أشعتها الذهبية اللامعة تجاه سطح البحيرة
الأبيض ..
أسرع فى إثر الأب تريفون بقية الآباء
الرهبان الصغار تابعين أبيهم الشيخ الواحد تلو الآخر دون أن ينطقوا بكلمة واحدة ..
وإذ بهم يجدون عابدة الرب ماريا فاقدة الوعى ، فحملوها إلى مظلة وهم مُعتقدين أنها
فارقت الحياة .. وفى الحال أبلغوا الأب جيراسيموس واستدعوا الأم العجوز أكولينا
التى اهتمت بوضعها فى فراش وغطتها بفرو الأغنام وكانت تجفف جسمها من الثلوج ثم
وقفت تُصلى بجوارها فى تأثر شديد ذارفة دموعاً غزيرة ..
حضر بعد ذلك الأب جيراسيموس مع الأب
بروخوروس ، أب اعتراف الدير ، بينما كانت ماريا ترقد دون أدنى حركة ووجهها شاحب
جداً ، وبالكاد يُلاحظ تردد نفس بسيط داخلها ... وكانت شفتاها مطبقتان ويسودهما
اللون الأسود بسبب الحمى والحرارة .. ولكنها استعادت وعيها وفتحت عينيها الغائرتين
على أثر سماعها صوت الأب جيراسيموس يتلو صلاة يسوع فى حنو وهنا لمحت بنظرها أيقونة
، فحركت ذراعها مشيرة تجاه الأيقونة ولكنها لم تقوَ على النطق بكلمة ..
سألها الأب بروخوروس وهو راكع بجوار
فراشها عما إذا كانت ترغب فى التناول من الأسرار المقدسة ..فمسحت بيدها التى كانت
على صدرها يدها الأخرى ثم فقدت وعيها ..ففهم الآباء بأنها ترغب فى سر مسحة المرضى
.. وفى الحال تمموا لها هذا السر ودهُنت بالزيت المصلى ..
ظلت ماريا فى الفراش وكان الأب المسئول
يناولها من الأسرار المقدسة عقب كل قداس ...وبعد مرور أسبوعين بدأ وجهها يتغير
تماماً وتشع منه نعمة سماوية وتجددت صحتها بقوة الشباب ودب فيها جمال وحيوية وقوة
وزال تماماً السواد الذى كان يُحيط بعينيها وشفتيها وكان وجهها يشع منه نور أبيض
مضيئ .
فى هذه الآونة ، حضر لزيارتها بنات أختها
بيلاجية ومطرونة بعد أن عرفتا ما حدث من أندرو أثناء غيابهما .
أخبرت ماريا بعد ذلك الأم أكولينا برغبتها
فى الاعتراف ، فحضر الأب بروخوروس أب اعتراف الدير وسمع اعترافها الأخير الذى كان
مصحوباً بتوبة عميقة وانسحاق شديد ثم ناولها من الأسرار المقدسة ..
فى اليوم التالى لم تنطق ماريا بكلمة
واحدة ولم تُجب على أى سؤال كان يُوجه إليها ، لتنعم بالهدوء الذى يمكنها من
الإنصات لكلام الروح السرى الموجود داخلها . وظلت ماريا راقدة فى الفراش وهى تضع
يديها فوق بعضها على صدرها ثم أغمضت عينيها وانطلقت روحها من جسدها فى هدوء ...
وهكذا رقدت هذه القديسة التى تعتبر "شهيدة دون سفك دم " فى مساء اليوم
التاسع من شهر فبراير عام 1860 م .
دوى خبر نياحة ساكنة الغابة فى كل القرى
المحيطة فذهب إلى الدير جمع غفير لحضور صلاة التجنيز ..
وظل جسد ماريا موضوعاً فى الكنيسة لمدة
ثلاثة أيام ولم يطرأ عليه أى علامة فساد أو تغيير .. وأثناء صلاة التجنيز ، شع
وجهها بنور سماوى وقد رأى وعاين كل الحاضرين هذا النور الذى كان صادراً من وجهها
كآشعة ساقطة عليه من أعلى رغم أن هذا اليوم كان مليئاً بالسحب والغيوم ..
حضر بالكنيسة عدد كبير من الشعب وكانت
الشموع البسيطة لا تُعطِ ضوءاً كافياً وسط هذا الزحام ولكن النور المشع من وجه
ماريا ترك أثراً عميقاً فى نفوس الحاضرين ، فكان سبب تعزية وفرح للجميع متحققين من
قول الكتاب " يُضئ الأبرار كالشمس فى ملكوت أبيهم " (مت 13 : 43 ) .
****************تمت******************
( عن سلسلة أنا هو لا تخافوا (8) ترجمة دير الشهيد العظيم أبى سيفين
للراهبات لسنة 1999 )
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق