جلست إلى نفسى أسأل وأتساءل عن مفهوم العطاء فى قاموس البشر . فإذا بى أجد نفسى أمام مشكلة صعبة ... فليس هناك عطاء إلا من إنسان يملك فيقدم لللآخرين مما يملكه ، ثم عُدت أسأل نفسى .. ماذا يملك الإنسان ليقدمه ؟! .
فإذا بى أمام مشكلة أصعب ، لأنه ليس هناك من يملك فعلاً . وعُدت بذاكرتى إلى مولد الإنسان فإذا به لا يملك الأقمطة التى يقمط بها . ثم يعطيه الله نمواً وصحة فيعمل وينتج . وإن النمو والصحة والأنتاج ما هى إلا عطايا من الله وليست من ممتلكات البشر ...
وتدرج بى ّ الفكر إلى أن تأملت الإنسان وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة ، وكأنه يصرخ مع أيوب " عرياناً خرجت من بطن أمى وعرياناً أعود إلى هناك " (أى 21:1 )
ونسمع سليمان الحكيم يتكلم بصوت قوى " كما خرج من بطن أمه عرياناً يرجع ذاهباً كما جاء ولا يأخذ شيئاً من تعبه فيذهب به فى يده " (جا 5 : 15 ) .
ولم أفق من تأملاتى هذه إلا على صوت قرعات على الباب وإذا بى أمام إنسان يسألنى فى هدوء وعمق "أعطينى مما أعطاك الله " ...فشعرت عندئذ : أننى لست أملك شيئاً..وإنما هو صوت الله يأمرنى على لسان الرجل أن أُعطيه مما أؤتمنت عليه بصفتى مجرد وكيل فقط على ممتلكات الله " ومن يدك أعطيناك " (1أى 29 : 14 ) . وهكذا رأيت نفسى أمام دعوة إلى الأعماق فى حياة العطاء ...
ولكننى عُدت إلى حيرتى مرة أخرى عندما حاولت أن أتجرأ وأدخل إلى عمق العطاء كمحاولة متواضعة لمعرفة حدود العطاء ... فإذا بى أمام قوة غير محدودة من الحب الإلهى ... رأيت نفسى أمام الصليب ... وأحسست عندئذ أن العطاء بلا حدود ، لأن مصدره حب الله غير المحدود حيث بذل ابنه الوحيد على الصليب لكى يُعلمنا مفهوم العطاء ...
وتراجعت أمام هذه القضية الصعبة ، ورفعت عينىّ نحو المصلوب أسأله أن يدربنى فى مدرسة الحب الالهى كطفل يحبو على صدر أبيه يطلب منه درساً صغيراً يتناسب مع طفولته .
فنظر إلىّ بعين حانية مشفقة على بشريتى الضعيفة وقال لى : لن تستطيع أن تعطى شيئاً ما لم أعطيك أنا من نبع الحب , والحب الذى بداخلك هو وحده الذى سيقدم ويبذل دون أن تشعر أنك قدمت أو بذلت شيئاً .
( عن كتاب دعوة إلى الأعماق للقمص صليب رزق الله _ مطرانية الفيوم _ 1988 )
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق